دورة هذا العام بإسم الخطاط يوسف أحمد

يُعد يوسف أحمد هو باعث الخط الكوفي في العصر الحديث، بعد أن ظل أجيالاً لا يعرفه الناس إلا رسومًا وأشكالاً يصعب عليهم قراءتها، وتمييز حروفها بعضها من بعض"
بتلك الكلمات القليلة يتحدث كل من أراد كتابة السيرة الذاتية ليوسف أحمد، فأصبحت تلك الكلمات مكررة بشكل ملحوظ، وعلى الرغم مما تحمله العبارة من حقيقة تاريخية ثابتة إلا أن التكرار المفرط في استخدامها أفقد تلك الكلمات الكثير من حيويتها، فكان لابد من محاولة لرؤية شاملة لهذا الفنان، نحاول فيها أن نغوص قدر الإمكان في نتاج يوسف أحمد، والجو الفني العام الذي ظهر نتاجه فيه، وأشكال وصور نتاجه المتعدد، ولقاء مع مَن عايش الرجل أو تعلم على يديه، ثم الاستعانة بدور الحفظ القومية للدولة والهيئات ذات الصلة للإطلاع على الأوراق الرسمية التي تخصه، كانت كلها محاولات لنصل لبُعد جديد في حياة هذا الرجل، ولكن هل ما قدمه من أعمال يستحق أن تفرد تلك المساحة وذلك العناء، أعتقد أن الإجابة على هذا السؤال لها شقين الأول منها هو تقليدي وهي أن يوسف أحمد هو "باعث الخط الكوفي في العصر الحديث"، وبالطبع النتيجة بهذا الشكل والصورة لا تخرج عن الشكل المألوف والتقليدي في تناولنا لحياة هذا الرجل، والشق الثاني من الإجابة كان الصفحات التالية من هذا الكتاب.
تناول حياة يوسف أحمد هذه المرة يعتمد على قراءة أعمال يوسف أحمد بعيدًا عن نتاجه في الخط الكوفي فقط، وإنما من خلال مراحل حياته المختلفة، ونتاجه الفني والأثري والأدبي كاملاً، والظروف التاريخية التي هيأت ظهور مثل تلك الموهبة، فتحولت لنوع من أنواع العبقرية والتحدي، وعبقرية يوسف أحمد هي نتاج لتاريخ تلك الفترة، الذي ظهر فيها "إنشاء لجنة حفظ الآثار العربية" التي كانت بمثابة رد الفعل الأوروبي إزاء تجديدات عصر الخديو إسماعيل، ورغبته أن يجعل مصر قطعة من أوروبا، وهي أيضًا رد الفعل المصري الدور الذي لعبه المستشرقين في تلك الفترة، من اهتمام بالشرق كاملاً؛ ومصر جزءًا منه. وأيضًا اهتمامهم بالكتابات والخطوط العربية، وهو الأمر الذي يشير إليه يوسف أحمد بقوله "ثم زادني رغبة وإقدامًا إني عرفت لدى المستشرقين ورواد الآثار العربية من الغربيين، وفيهم من زار الأزهر وبعض الآثار قبل إصلاح النقص في كتابتها، ثم زارها بعد ذلك، فأخذ العجب، وعلم أنني أنا الذي أكملتها، حتى أن بعضهم طلب إلي أن أريه كتابتي في الأزهر لأنه لم يستطع أن يميز بين الجديد والقديم".    
لذلك فحياة يوسف أحمد هي مرآة صادقة لذلك العصر وتلك الفترة.
وحياة يوسف أحمد يمكن تقسيمها إلى ثلاث مراحل محددة، نتمكن من قراءة مراحلها بوضوح؛ بداية من دور الأب ونهاية بدور يوسف أحمد معلمًا وفنانًا أخرج للخط الكوفي فنانين حملوا من بعده الرسالة، واستكملوا ما بدأ فيه، أشهرهم الأستاذ محمد خليل، والأستاذ محمد عبد القادر، ولم يقف دور يوسف أحمد عند إخراج فنانين للخط العربي، بل منهم من حمل رسالة دكتوراه في تاريخ الخط الكوفي وأساليبه، وهو الدكتور إبراهيم جمعة، وبالتالي تعدى يوسف أحمد مهمته الأولى ليخرج عن كونه فنان يجيد الخط فقط إلى عَالِم أصبح صاحب مدرسة ورسالة، هذا إلى جانب أنه جعل من الخط الكوفي "ثقافة بصرية وتشكيلية" جديدة لم تتعودها العين الفنية من قبل، فابتدع أسلوبًا يحمل سمات الخط الكوفي الأصيل وقواعده، ولكنه أداه في تكييف وتنسيق جديد على الورق، فلم يسبق أن رأت العين الخط الكوفي من قبل إلا على العمائر المملوكية في القاهرة.
ولم نكتب مقدمات طويلة عن تطور الكتابات الكوفية في مصر، أو عن الخط الكوفي، بل لم نضع حتى تعريفًا لتلك الأمور، ولم يكن ذلك بخلاً على القارئ، فالغرض من ذلك أن من يحاول قراءة سيرة فنية ليوسف أحمد لابد وأنه مُلم بماهية الخط الكوفي وطبيعته، وأشكاله، وبعض من تاريخه، الأمر الذي يجعله يستوعب مادة هذه السيرة، أما إن كان قارئ تلك السيرة ممن يهوى الفنون الإسلامية أو يهوى الخط العربي، أو حتى قرأه من باب الثقافة العامة، فتكون تلك الصفحات بداية لأن يتزود بمعلومات عن هذا الفن الراقي، والاطلاع على مصادره، خصوصًا وهي جزء من حياة الفن في مصر.

 

 

 

 

      المرحلة الأولى
أراد الخديو إسماعيل أن يخرج مصر من دائرة بلاد الشرق وقارة أفريقيا عمومًا، فأمر بتعديل شوارع القاهرة وتوسيعها ليدخل الهواء والشمس للمنازل، وصارت القاهرة ذو وجه جديد في عهد إسماعيل، فأزال عنها المسحة الشرقية التي كانت عليها كباقي مدن الشرق في ذلك الوقت (صورة)، فكان كما وُصف "تتملكه الرغبة في إنشاء مدن فاخرة وحدائق ومتنزهات غناء، وكل وسائل الرفاهية التي تمتاز بها المدينة الحديثة".
وقد بدأ الخديو إسماعيل في محاولاته بناء مدينة أوربية الطراز والعمارة، بعدما زار إسماعيل باريس عام 1867م، وشاهد التخطيط الذي وضعه "أوسمان"، وقام بمقابلته وطلب منه وضع تخطيط جديد لمدينة القاهرة، والمهندس "باريللي ديشان" الذي أسس غابة بولونيا في باريس، واتفق معه على وضع تخطيط جديد لحديقة الأزبكية، وبالفعل تدفقت أعداد كبيرة من الأجانب على مصر سواء للعمل في تنفيذ خطط إسماعيل باشا المتنوعة، ومثلما غّير مشروع إسماعيل التحديثي وجه مصر وحدثها، إلا أنه أضر ببعض مباني مدينة القاهرة الإسلامية، فتصدت الدول الأوربية لمشروع إسماعيل التحديثي، خصوصًا وأن القاهرة تمثل لهم الشرق وإحدى ليالي ألف ليلة وليلة، فُأنْشِأ في 18 ديسمبر 1881م، أول دكريتو "قانون" بتشكيل "لجنة حفظ الآثار العربية القديمة" تحت رئاسة ناظر عموم الأوقاف، وكان من المهام الرئيسية لتلك اللجنة حسب نص القانون "ملاحظة صيانة الآثار العربية وإخبار نظارة الأوقاف بالإصلاحات والمرمَّات المقتضى إجراؤها"، فكان لإنشاء لجنة حفظ الآثار العربية، آثر كبير في المحافظة على الآثار الإسلامية، ويذخر كتاب "تاريخ المساجد الأثرية في القاهرة"، بكثير من الإشارات لعمليات التجديد التي قامت بها لجنة حفظ الآثار العربية بمساجد القاهرة، إلى جانب الدراسات العلمية عن بعض الآثار العربية.
في تلك الفترة الزمنية وفي هذا العصر ولد يوسف أفندي أحمد بن المعلم يوسف أحمد، ولد بالقاهرة سنة 1875م، وتعلم القراءة والكتابة، وحفظ القرآن الكريم وأخذ مبادئ الحساب، وكان والده نحاتًا دقيقًا في صنعته، اشتهر ببناء المآذن المحكمة، والقباب العظيمة الشاهقة الضخمة، وهو أول من اخترع طريقة إصلاح الجدران المائلة، وتقويتها، وذاع صيته ونال تقديرًا عظيمًا من الناس، فألحقته الأوقاف بخدمتها مهندسًا معماريًا في لجنة الآثار العربية، وقد كان لهذه الحرفة التي حذقها الأب، ووصل فيها إلى حدًا بعيدًا من الشهرة والنبوغ أبلغ أثر في نشأة الابن؛ فأخذ الوالد يصطحب معه الطفل الصغير "يوسف" إلى عمله، ويُوقفه على المساجد التي كان يتولى إصلاحها لنظارة الأوقاف -المسئولة وقتها عن صيانة وترميم الآثار الإسلامية- أو غيرها من زخارف ونقوش وخطوط، وكان الأب يوحي لابنه الصغير بمحاكاة الكتابات الأثرية وفهم قواعدها ومكان وجودها في المسجد ومادة صنعها، ورسم صورها وأشكالها على الورق، وقد يكون الوالد أستشعر بحسه أن الكتابات الكوفية في طريقها إلى النهاية خصوصًا وأن أعمال لجنة حفظ الآثار العربية يسير على قدم وساق، ويشير إلى ذلك يوسف أحمد نفسه بقوله "ثم تنوسى الخط الكوفي بعد ذلك، وتوالت عليه السنون، فأصبح من الألغاز المعقدة التي يصعب حلها، إلى أن قامت لجنة حفظ الآثار العربية المشكلة في سنة 1881 ميلادية، وبدأت في إصلاح وتعمير ما لعبت به أيدي الأيام، من المساجد وغيرها، واضطرت إلى إعادة زخارفها، وكتابتها، إلى مثل ما كنت عليه وقت نشأتها فكان أعقد ما في أعمالها تكملة النقص في الكتابة الكوفية. وليس في الديار المصرية وقتئذ من يقرؤها فضلاً عن كتابتها".
وبالفعل أخذ الوالد يشجع أبنه على التعود على رؤية ومشاهدة الآثار العربية والإسلامية القديمة؛ بمنحه مكافآت سخية ويغريه بالثناء عليه؛ ويوسف لا يخيب لوالده أملاً؛ بل كان يزداد بما يدعوه إليه شغفًا، يقول يوسف أحمد في ذلك "ثم أخذ يكلفني تقليد الخط الكوفي من قاعدة المربعات، لأنه أسهل أنواعه وأعطاني رسمًا مكتوبًا به أسم (محمد) أربع مرات لأنقله، ولا أعرف ولا يعرف هو من هذا الخط أكثر من كتابة هذا الاسم، وأمرني بتقليده، وأفهمني أن هذا النوع من الخط لا يجيء إلا مفردًا أي أن الخطوط الشطرنجية التي يتكون منها الاسم لا تأتي إلا فردية. فحفظت ذلك جيدًا، ولا أزال أذكره".   
فتعلم يوسف الخط الكوفي وأساليبه، وإجادة قراءته وكتابته، وإتقانه الرسم والمنظور لأن أباه هيأ له الجو المناسب التي ترعى تلك الموهبة، وإن كان ذلك هو الجو الذي نشأ فيه، فمن المؤكد أنه كان يمتلك استعدادًا فطريًا كبيرًا شجعه عليه إتقانه وحفظه للقرآن الكريم، فانصرف الفتى بكل همته وشغفه إلى تعلم قراءة هذا الخط الكوفي، وإتقان محاكاته وتقليد كتابته، وفهم ما هو مدون منه، وكان أكبر معين له في ذلك كثرة ما يصادفه من آيات القرآن الكريم، والتي كان يحفظه حفظًا جيدًا، فأخذ يمرن يده على كتابة هذا الخط حتى أتقنه غاية الإتقان، وأذكى هذا التفوق عند مشاركته أباه في مهام صناعته، ثم دخوله تلميذًا في لجنة حفظ الآثار العربية عام 1890م، ثم عُين موظفًا رسميًا "رسامًا وخطاطًا" عام 1891م، بلجنة حفظ الآثار العربية لإلمامه بالخط الكوفي، مما ضاعف من اهتمامه به، فانكب في عمله وخارجه على دراسة الخطوط الكوفية الأثرية وفك حروفها في المساجد والمقابر حتى أتقن قراءتها ثم كتابتها، يقول يوسف أحمد "هنالك زادت رغبتي، واتجهت همتي إلى إتقان الخط الكوفي أتقانًا صحيحًا، وتركت الخط الثلث الذي كنت أتقنه في المدرسة لانشغالي بغيره من الخطوط الأثرية، وكان مساعدي على تعليم الخط الكوفي أمران:
الأول: مرافقتي لوالدي الذي حرص على تعليمي الخط الكوفي.
الثاني: أن الذي أريد تعلمه أصبح من أعمال وظيفتي الرسمية، فصار الموضوع بذلك حديثي وشغلي في كل أوقاتي".   
المرحلة الثانية
كان تعيين يوسف أحمد موظفًا بلجنة حفظ الآثار العربية سنة 1891م، بداية للمرحلة الثانية في حياته وقد كان من أهم واجبات وظيفته المحافظة على الآثار وترميمها وإعادتها إلى أصلها بكتاباتها وزخارفها، وإتمام النقص الطارئ عليها والتلف الذي يصيبها، ونجح باستخلاص أنواعها التي خُطَّت على الآثار في مصر حسب تسلسلها التاريخي. وقد تجاوز ما استخلصه منها سبعة وعشرين نوعًا أتقنها جميعًا، ثم أخذ يُبدع ويتفنن، لدرجة أن كتاباته كان يصعب تمييزها، حتى أن كرومر لما لاحظ ذلك "اقترح على باشمهندس اللجنة وضع خط أحمر يفصل بين الكتابتين، الحديثة التي بخطي والقديمة الأصلية لتمييزهما عن بعضهما"، فكانت تلك الآثار الخطية التي رمَّمَها بدقة وإتقان مثل النوافذ الجَصَّية في جامع أحمد بن طولون وعددها 130 نافذة، وهي مزدانة بآيات قرآنية، وجمل متنوعة مكتوبة بالخط الكوفي، ويقول يوسف أحمد عن ذلك العمل "وخفت أن أعجز عن قيام بما انتدبت إليه، ولكن أذهب خوفي قول المتنبي في أمثاله:
            وما الخوف إلا ما تخوفه الفتى     ولا الأمن إلا ما رآه الفتى أمنا
 فشرعت في إتمام مأموريتي بقلب مطمئن وكانت هذه النوافذ على ارتفاع عظيم، وكان لابد لي من ارتقاء السلم الخشبي حتى أصل إليها، وكنت أصعد إلى النافذة، وأجهد نفسي حتى أستطيع قراءة المكتوب فيها، وأعرف الكلمات أو الحروف التي عبث بها الدهر، ثم أنزل وأصعد إلى جملة نوافذ غيرها، باحثًا عن النافذة التي فيها الخط المماثل، والتي فيها مثل الكلمات أو الحروف الناقصة، ثم أنقلها وأكتبها وأرسمها، ومتى تم إصلاح النافذة الأولى، عمدت إلى الثانية، وهكذا حتى أكملت الكتابة الناقصة في جميع النوافذ التي تم إصلاحها".
وهنا يتحدث يوسف أحمد عن الإرهاق والمشقة التي عاناها في سبيل إتمام عمله فيقول "ولا أستطيع احصاء عدد المرات التي اضطررت فيها إلى صعود السلم، وقد تجاوزت مئات المرات"، أهم مصادر دراسته للخط الكوفي أو بمعنى أدق "أمشقه" في تعلم ذلك الخط، كما أفاد يوسف أحمد كثيرًا من قيامه بترتيب الآثار العربية، وتنسيق ما عثر عليه من ألواح الرخام والحجر الجيري والرملي، وشواهد القبور المكتوبة بالخط الكوفي، فدرسها وقرائها وعرف تواريخها، فكانت هي مدرسته وكتبه التي اهتدى بها إلى معرفة قواعد الكتابة الكوفية في كل زمن، فأتقن قراءتها وكتابتها على اختلاف أنواعها وعصورها.
شهدت مصر في تلك الفترة أيضًا اهتماما بحركة بناء وتوسعة لمعظم لمساجد أولياء الله الصالحين، ولم يقف حكام تلك الفترة وراء تلك السلسلة من الإنشاءات وحدهم، بل أن كثير من سيدات الأسرة ساهمن في تلك المشاريع، ويبرز دور خوشيار هانم في عهد الخديو إسماعيل، في إقامة مسجد الرفاعي بالقاهرة، ومسجد سيدي المغازي بمحافظة كفر الشيخ الذي شهد في عهد الوالدة باشا عمارة كاملة وتجديدا شاملاً، كما أهتم الخديو توفيق بمسجد السيدة زينب بالقاهرة رضي الله عنها ووسعه، ومسجد السيد إبراهيم الدسوقي بمحافظة كفر الشيخ، وكانت أكبر فترات التوسعة والإقامة لمساجد تتعلق بأولياء الله الصالحين، فقد شهدها عصر عباس حلمي الثاني، حيث جدد مسجد السيدة نفيسة، والسيدة سكينة، والسيدة عائشة بالقاهرة، ووسع  مسجد السيد البدوي بمدينة طنطا، وأكمل مسجد الرفاعي بالقاهرة، وقد ظهر الخط العربي جليًا بكتابات مجودة على تلك العمائر، وبخطوط كبار الخطاطين في تلك الفترة، فظهرت خلال تلك الفترة إن عبقرية يوسف أحمد لا تكمن في إحيائه للخط الكوفي من قراءته وكتابته، بل تعدى ذلك كله ليكون متخصصًا في الكتابات الآثرية كاملة ويشهد على ذلك ما خلفه من كتابات بالخط الثلث، مثل لوحة تجديد مسجد المارداني، ومسجد الأمام الشافعي، وجامع البنات ونصوصها:   
جامع عبد الغني الفخري (جامع البنات)
كتب هذا النص على عضادت المدخل الرئيسي للمسجد، ونستطيع القول أن نص تجديد جامع عبد الغني الفخري المؤرخ 1313هـ، هو النص الوحيد من هذه الفترة الذي سجل على عضادتي المدخل بعد اختفاء تسجيل نصوص التأسيس، أو التجديد في هذا المكان قرابة أربع قرون من الزمان، حيث كانت آخر مرة يسجل فيها نص تأسيس في هذا الموقع بنص زاوية الكلشني، وهذا النص يعطي وبجلاء عن مدى مقدرة يوسف أحمد الآثرية والفنية، ومضمونه:         
ﭑ ﭒ ﭓ
جدد هذا الجامع المبارك المعمور بذكر الله تعالى في عصر خديوي مصر الأعظم عباس حلمي الثاني أدام الله أيامه سنة ثلاثة عشر وثلاثمائة وألف كتبه يوسف أحمد
نص تجديد مسجد المارداني
تعتبر تلك اللوحة من اللوحات الهامة، وتأتي أهميتها وتميزها لسببين أولهما، أنها كتبت بنفس نوع الخط الذي كتبت به نص الإنشاء، وراعى يوسف أحمد أن يكون موضع ومكان نص التجديد في نفس مستوى ومكان نص الإنشاء، ونصه:      
- عنيت لجنة حفظ الآثار العربية المؤسسة بالقاهرة سنة 1299 هجريه بعمارة هذا الجامع المبارك والأثر الذي ليس
- في جماله مشارك فجددت ما تشعث من جدرانه وأبدلت ما تداعى من طينه وعمدانه وأصلحت وزرة الرخام التي
- تكسوا سفاك حيطانه وأكملت ما نقص من قطع فسيفساء المحراب وأعادت لحالته الأولى كلا من المنبر والشبابيك والأبواب
- وانشات فوق محرابه قبة رمت مقرنصاتها الظريفة ودهنت إحداها فغدت كما كانت زاهية لطيفة وبنيت الطبقة العليا من منارته
- ورمت جميع سقوف مقصورته وكان الشروع في ذلك كله سنة 1314 وتمامه في سنة 1321 في عصر خديو مصر الأعظم
- ومليكها الأفخم عباس حلمي الثاني بلغه الله غاية الأماني بمحمد واله وصحبه وأنصاره أمين يارب العالمين كتبه يوسف أحمد 1321   
واجهة مسجد الإمام الشافعي (لوحة)
يغطي هذا النص الواجهة الرئيسية لمسجد الإمام الشافعي على هيئة شريط كتابي بالخط الثلث، مقسم إلى ثلاثة أجزاء أولها في الضلع الشمالي، وجزئها الثاني -وهو أكبرهم- يغطي الواجهة الرئيسية، والجزء الثالث يقع في الضلع الغربي المواجه لمدخل القبة، ونصه:    
- شرع ديوان الأوقاف في تجديد
- المسجد في سنة 1303 في عهد مديره المرحوم محمد زكي باشا وباشمهندس فرنس باشا في عهد ساكن الجنان محمد توفيق باشا الخديو السابق وانتهى سنة 1309 في عهد مديره المرحوم علي باشا صابر وباشمهندسه المرحوم مصطفى بك صادق وعملت المنارة في سنة 1323 في عصر عدلي باشا يكن المدير وصابر بك صبري الباشمهندس في ظل الخديو افندينا عباس حلمي الثاني ثم عملت الزخارف بالنقش على الرخام والحجر واستبدلت الميضاه بحنفيات في سنة 1327 في عهد مديره مصطفى ماهر
- باشا وباشمهندسه محمود بك فهمي في ظل الحضرة الخديوية كتبه يوسف أحمد
ومن أهم الأعمال التي قام بها إكمال الناقص من الكتابة بداخل الجامع الأزهر عند ترميمه بمعرفة لجنة حفظ الآثار العربية، وكذلك إتمام الكتابات على سائر المساجد والأماكن الآثرية التي كتب على جدرانها بالخط الكوفي، كجامع الحاكم، والجامع الأقمر، وأبواب سور القاهرة، ومسجد الصالح طلائع، ومسجد سيدي معاذ، ومشهد السيدة رقية، وقبة إخوة يوسف، ومسجد الجيوشي، ومسجد السلطان حسن، ومسجد الغوري وقبته بالغورية، وقبة الغوري بكوبري القبة، ومسجد سليمان باشا بالقلعة، بالإضافة إلى آلاف الألواح والشواهد الآثرية التي تسلمها ونسَّقها أثناء عمله كرسام وخطاط ومفتش للآثار الإسلامية.
قبر الخديو إسماعيل بمسجد الرفاعي بالقاهرة (لوحة)
كتب يوسف أحمد قبر الخديو إسماعيل بمسجد الرفاعي، والقبر من تصميم المهندس الإيطالي A.Battigelli، الذي صمم العديد من المنشآت المعمارية في القاهرة والإسكندرية، وقد شرع في كتابة مدفن الخديو إسماعيل الشيخ مصطفى الحريري، ولكن عاجلته المنية وتوفى رحمه الله سنة 1917م ، فكتبه يوسف أحمد، والقبر مكون من ثلاث طبقات، الوسطى كتب عليها بالخط الثلث  
المرحلة الثالثة
شهدت تلك الفترة اهتمام بالفنون الإسلامية عامة وبالعمارة الإسلامية بشكل خاص من حيث الإنشاء واستدعاء التفاصيل المعمارية الإسلامية، وأعمال الترميم للكثير من المباني، ومن هذه المباني متحف الفن الإسلامي ودار الكتب القديمة المجاورة للمتحف بمنطقة باب الخلق (لوحة)، الذي أمر بإنشائه الخديو عباس حلمي الثاني وافتتح عام 1903م، وواجهة محطة مصر بميدان رمسيس والتي بنيت عام 1893م (لوحة)، على الطراز الإسلامي الجديد، وصممها المهندس البريطاني "إدوين بانس"، كما أتخذ الخديو عباس حلمي الثاني شعارًا كتابيًا يقوم تصميمه على الخط العربي إلى جانب الشعار الكتابي المكون من حروف لاتينية (لوحة)، على أي حال فقد خلفت لنا تلك الفترة بالتيارين الذين ظهروا فيها الكثير من المؤسسات العلمية والثقافية والشخصيات صاحبة الريادة التي كان لها دورًا بارزًا في تشكيل ملامح ليس فن الخط العربي وحسب، بل المشهد الثقافي كاملاً.
وتمثل هذه المرحلة من حياة يوسف أحمد ذروة العطاء الفني، حيث حاز المرتبة الثانية للخط الكوفي في المسابقة التي أُقيمت لإصلاح حروف المطبعة الأميرية في مصر عام 1903م، ولم ينافسه فيها إلا اثنان سوري وتونسي، وبطبيعة الحال لم يرضى يوسف أحمد عن هذه النتيجة خصوصًا وأنه قدم 27 نموذجًا منها 17 نموذجًا عن قواعد الكوفي الأصلية؛ والباقي عن الفروع، ويقول في ذلك "ولكن لأن اللجنة التي عهد إليها وقتئذ تقدير الفن لا تعرف من أمر الخط الكوفي أكثر مما يعرفه الناس، منحتني الجائزة الثانية، فلم يفل ذلك من عزيمتي، لأني عرفت قيمة كتابة غيري فيه، بل زادني إيمانًا بصحة علمي وفني".      
     ثم كُلَّف يوسف أحمد بكتابة أوسمة الدولة عام 1914م، وفي تلك الفترة أيضًا كتب مسجد الحبشي كاملاً بمدينة دمنهور (لوحة)، وأستخدم في كتاباته بالمسجد السابق الخط الكوفي الفاطمي في كتابته للأبواب الرئيسية المؤدية إلى بيت الصلاة، وكتب بالخط الثلث لوحات الشبابيك، وفي تلك الفترة أيضًا وصل يوسف أحمد في وظائف الدولة أن أصبح مفتشًا للآثار العربية، وقام بتدريس الخط الكوفي لطلاب مدرسة تحسين الخطوط العربية بالقاهرة، وكُلف بالعمل أستاذًا لتعليم الخط الكوفي بالجامعة المصرية، كما جعل من الخط الكوفي مادة للدرس والبحث بقسم الآثار العربية بكلية الآداب بالجامعة المصرية، وقد تخرج على يديه كثير من نوابغ الخطاطين المشهورين، وأبرزهم الأستاذ محمد عبد القادر عبد الله، ومحمد خليل، وغيرهم، وتخرج على يديه الدكتور إبراهيم جمعة صاحب واحدة من أهم الرسائل العلمية ليس في تاريخ الخط الكوفي وحسب بل وفي تاريخ الكتابة العربية كلها، وهي بعنوان "دراسة في تطور الكتابات الكوفية على الأحجار في مصر في القرون الخمسة الأولى للهجرة مع دراسة مقارنة لهذه الكتابات في بقاع أخرى من العالم الإسلامي". ومن أثار يوسف أحمد العلمية، ثلاث رسائل عن الخط الكوفي، ورسالة بعنوان "محاضرة عن الخط الكوفي في جميع أطواره" هذا إلى جانب دراساته العلمية عدة، وأيضًا رسائل في التاريخ الإسلامي منها:
- جامع ابن طولون.
- جامع عمرو بن العاص.  
- مدينة الفسطاط.  
- مقبرة الفخر الفارسي.
- مقياس النيل.
- جامع السلطان حسن.  
- الإسلام في الحبشة.
وفي حديثه عن نفسه يرجع عوامل انبعاثه ويقظته في فنه إلى عاملين ذاتيين، وآخرين محليين، أما الذاتيان فأولهما: أنه كان رسامًا، والرسم يسهل تعلم الخط الكوفي، ويشوق إليه.
 وثانيهما: أن أعمال وظيفته -وهي الكتابة بالخط الكوفي- كانت تحفزه على إتقان تعلمه، والتفوق في كتابته استجابة لبواعث نفسه. وأما العاملان المحليان، فأولهما: أن في الإقليم المصري كثيرًا من المساجد الآثرية التي شيدت في قرون مختلفة ودول متعددة، وقد زينت جدرانها وقبابها بكثير من الآيات والحكم بالخط الكوفي.
وثانيهما: أن القرافة المصرية حوت كثيرًا من شواهد القبور المكتوب عليها بالخط الكوفي، وعليها تواريخ كتابتها، فهي بذلك تعتبر متحفًا من متاحف هذا الخط، ومن حميد صنائع يوسف أحمد إدخاله أنواع من الزخارف والرسم على الكلمات في كتابته على العمائر، أو حتى في كتاباته لأغلفة الكتب، وظل في عطائه حتى وفاته يونيه 1942م.

 

الدورة السادسة لملتقى القاهرة الدولى لفن الخط العريى