سيد عبد القادر (الحاج زايد)

رائد الروحانية والتجديد في فن الخط العربي

دكتور محمد حسن

يمثّل الحاج زايد عبد القادر واحدًا من الأسماء البارزة في مسيرة الخط العربي الحديث، فقد شكّل بحضوره الفني وتكوينه العلمي نموذجًا فريدًا للخطاط الذي يجمع بين البراعة التقنية، والالتزام الروحي، والوعي التاريخي بالقيمة الحضارية للحرف العربي. يتجلّى تميّز تجربته في مزيج دقيق بين المهارة اليدوية المتقنة في تنفيذ اللوحة الخطية؛ كذلك القدرة على ابتكار حلول جمالية وتصميمية داخل أنظمة الكتابة التقليدية، وهي سمة جعلت حضوره مؤثرًا في أجيال من المشتغلين بالخط العربي المعاصر.

 

الملامح التكوينية وشخصية الخطاط

وُلد الحاج زايد في الرابع عشر من نوفمبر عام 1921م بحي الدراسة بالقاهرة. ومنذ أن كان في الخامسة من عمره ظهرت عليه بوادر ميلٍ فطري إلى الخط العربي؛ فكان يجلس بالساعات يقلّد لافتات المحلات التجارية، ويكتبها على الأرض بالحجر الأبيض بدقة تُدهش الكبار قبل الصغار.

وحين دخل المدرسة في السادسة من عمره، أُعطي اللوح الأردواز الذي يتعلم عليه التلاميذ الكتابة. كان يكتب على اللوح جمالًا يجعل معلمه يحتفظ باللوح بعد انتهاء الدرس ليعرضه على غيره. وقد أحبّه زملاؤه الأطفال لقدرته على كتابة أسمائهم بخط جميل، فكانوا ينزعون ورقتين من منتصف كراساتهم ليكتب لهم أسماءهم في إحداها[1]، ثم يعطونه الورقة الثانية أجرًا على صنيعه؛ لقد كان هذا التميز المبكر سببًا في عدم إكماله الدراسة الأكاديمية؛ فقد رأى أن الله قد منحه شهادة خاصة في فن الكتابة لا تُنال بالامتحانات، بل تُمنح إلهامًا وعطاءً من لدنه.

بدأ الحاج زايد مسيرته العملية في وزارة الأشغال، ثم انتقل للعمل في شركة شِل حيث وجد المجال الذي يوافق ميوله الفنية: الخط، والرسم، والزخرفة، والجدولة الفنية، وبعض المهام الهندسية الدقيقة؛ وفي عام 1952م طلبت الشركة تعيينه رسميًا لتميزه الشديد، فاستقال من الوزارة وتفرغ لعمله الجديد، وظل في الشركة حتى تأممت عام 1964م؛ كان للشركة مجلة شهرية يتولى فيها إعداد لوحة خطية ثابتة، كما كانت الشركة تطبع كل عام لوحة فنية مصاحبة لإمساكية رمضان من خطه، وتوزّع في جميع محطات الشركة على مستوى الجمهورية، الأمر الذي جعل اسمه يتردد في أوساط واسعة.

اتسمت شخصية الحاج زايد بالتواضع الجمّ، وحسن الخلق، ودماثة السلوك، وهي صفات انعكست بصورة مباشرة على إنتاجه الفني. فالخطاط – من الناحية التاريخية – هو صانعٌ للمعنى وللمقدّس بقدر ما هو صانع للشكل، ومن ثمّ فإن صفات كالهدوء، والنقاء الداخلي، والصبر، تُعدّ جزءًا أصيلًا من تكوين الخطاط الحقيقي. وقد تجسّد ذلك في شخصية الحاج زايد التي اتسمت بالطمأنينة والسعة في التعامل مع الناس وزملائه وتلاميذه، مما أهّله لأن يكون مرجعًا محبّبًا لكل من قصده طالبًا المساعدة أو الاستشارة، يقول الأستاذ فوزي سالم عفيفي:

 "... يمتاز بالخلق الكريم والمثالية ومن عداد الأتقياء الصالحين؛ لقد أضفي جمال الخط في يد الحاج زايد جمالاً في نفسيته وسموًا في أخلاقه ونورانية في روحه ثم رقة في معاملته وعذوبة في لسانه وتجده في منزله يلبس الملابس البيضاء ويكون علي طهارة دائمة ووضوء مستمر - واذا دخلت منزله تشم رائحة العطور الطيبة والبخورات المتضمنة رائحة المسك- كما أنك تحس بالروحانية عند جلوسك في منزله - فتجد حولك من أصول الآيات القرآنية ما هو في إطارات مذهبة - وهي تحمل أسمي المعاني مكتوبه بالخطوط المجودة بيده وملونة بالأسلوب الفني والتي تحتوي بعضها علي الرسم والزخرفة والتذهيب بيده الدقيقة ..."[2].

وقد اكسب "الحاج زايد" هذا الاتساق الداخلي أثرًا مباشرًا على بنية خطه؛ إذ اتسمت أعماله بالانضباط، والاتزان، والمحافظة على روح المدرسة التقليدية دون الوقوع في الجمود. وفي الوقت نفسه كان قادرًا على توظيف اللين والدقة، والسمك الرفيع والسميك، بما يسمح بإنتاج صيغ جمالية محكمة، خصوصًا في المخطوطات القرآنية التي ارتبط اسمه بها.

الإسناد الفني والعائلي

لا يمكن فهم تجربة الحاج زايد دون الإشارة إلى الجذور الفنية لعائلته، فقد نشأ في بيئة يملؤها الحرف العربي وتحيط بها خبرات الخطاطين؛ فقد سبقته إلى ميدان الخط شقيقاه الكبيران: الحاج محمد عبد القادر، الذي عُرف بلقب "شيخ الخطاطين" لما امتلكه من مهارة واسعة ومعرفة متعمقة، والحاج قدري عبد القادر، الخطاط بجريدة الأهرام، وكلاهما رحل قبل الحاج زايد. وقد شكّل هذا الامتداد العائلي مدرسة قائمة بذاتها، أسهمت في ترسيخ تقاليد الصنعة، ونقل قيمها جيلاً بعد جيل.

هذا الإرث العائلي لم يكن مجرّد خلفية، بل كان عاملًا أساسيًّا في تشكيل رؤية الحاج زايد للخط؛ إذ وجد أمامه نماذج حية لأهمية الالتزام، واحترام أدوات الكتابة، وتقدير الوظيفة الجمالية للنقطة والميزان والحرف. كما اكتسب من بيته التمرس على العمل الدقيق، والاعتناء بالصفحة بوصفها كيانًا واحدًا لا تجزئة فيه، وهو ما ظهر جليًا في إنتاجه النسخي والزخرفي، كتب الأستاذ محمد عبد القادر، عن مصحف أخيه الأصغر الحاج زايد:                         

مساحةُ الصفحة بالنسبة لطولها وعرضها جاءت مناسبة وسليمة، والزخرفةُ السنبُلية وكذلك الزخرفة الهندسية التي طوّقتها جاءت متناغمة مع الكتابة، وقد أكسبتها بهاءً ورونقًا. ويجب أن يؤخذ في الاعتبار الجهد المبذول في تقسيم السنبلات لنحصل على منطوق الآيات الكريمة، وفي كل سنبلة مئة حبة، صدق الله العظيم ...الكتابةُ النسخية للصفحات جاءت ممتازة من حيث سورة الحرف ثم سورة الكلمة، لتكون أسطرًا موزعة على مساحة الصفحة توزيعًا باهرًا يعطي مظهرًا جليلًا متكاملًا، توفرت فيه الأصالة، وقد أشعت من الصفحة حقًا نورانية القرآن الكريم. معالجةُ الأسطر من حيث عدد كلماتها والاضطرار لأن "يرق" سمك القلم قليلًا في بعضها، ثم بيسر ومهارة وتمكن فائقين، لم يؤثر إطلاقًا على العمل الفني كقيمة؛ فكل سطر على حدة ينطق بالراحة وجمال التوزيع، مما يؤكد مدى الجهد المضنى الذي استنفذته هذه العناية الفائقة -بل أقول الفريدة- في هذا العمل الفني الغني، مما يجعل الإنسان لا يشك لحظة في أن الله سبحانه وتعالى كان من وراء هذا العمل ليخرج بهذا المستوى الرفيع المتكامل[3].

 

 

 

منهج الحاج زايد في كتابة القرآن الكريم والخط العربي

شكّل القرآن الكريم محورًا رئيسيًا في مسيرة الحاج زايد الفنية. فقد ابتكر أشكالًا وأساليب في كتابة القرآن لم يسبقه إليها أحد، إلى الحد الذي نال فيه براءة اختراع عن إحدى لوحاته القرآنية الفريد، وكيف لا يحدث هذا... فلكل لوحة من لوحاته، قصة يحكيها إذا أطمئن أنها ستكون في محل تصديق من سامعها، لأن بعضها يمتلئ بالتوجيهات الربانية المباشرة؛ وبعضها فيه إشارات وإرشادات وتلميحات. إنه دائمًا مع الله في تحركاته وسكونه وفي كل نشاط يقوم به، إن يده تكتب القرآن ولسانه يقرأ القرآن وهو مع الله بوجدانه في كل زمان ومكان بطهارة واتصال مستمر ... "[4]

كتب الحاج زايد ربعة القرآن الكريم - وهي المصحف المقسّم إلى ثلاثين جزءًا - واستغرق في كتابتها 28 عامًا؛ جعل لكل جزء كتابًا مستقلاً يبدأ من أول صفحة وينتهي آخره بآخر صفحة فيه، دون الإخلال بالنَّسَق القرآني، وقد تأخر طبع هذه الربعة سنوات طويلة حتى قامت شركة الشمرلي بطباعتها عام 1990م، فكان ذلك أول مصحف مكتوب بخط اليد يُطبع بعد أربعين سنة من الانقطاع.

لم يتوقف الحاج زايد عند ذلك، بل كتب خمسة مصاحف كاملة، تختلف كل منها عن الأخرى في طريقة الكتابة، وتقسيم الصفحات، وأسلوب توزيع الآيات. وكان يقول إن هذا التعدد ليس إلا أثرًا من "عطاء الله وفضله، والله يؤتي فضله من يشاء".

تميّز منهجه الفني بالانحياز إلى المدرسة التقليدية، خصوصًا في كتابة المصاحف الشريفة، حيث تتطلب الدقة والالتزام بقواعد النسخ، وتحقيق الاتساق بين الوحدات الكتابية في الصفحة، والمحافظة على نسق بصري يجعل القراءة القرآنية مريحة ومنسجمة. وقد عرف عنه قدرته العالية على ضبط الحروف في مساحة ضيقة دون المساس بجماليات الشكل، وهي مهارة لا يملكها إلا من بلغ درجة رفيعة من التمكن، وتقوم فلسفته الجمالية على مبدأ أن "الخط هندسة روحانية"، كما يصف ابن مقلة، فالحرف عنده ليس عنصرًا بصريًا مجردًا، بل هو أثرٌ لروحٍ تهذبت، وصنعةٍ نضجت، ودربةٍ طال تمحيصها. ولهذا كان يمنح كل مرحلة من مراحل الكتابة – من إعداد القلم إلى اختيار الحبر والورق – مكانها اللائق من العناية، بوصفها عناصر تكوّن بنية العمل النهائي.

اختير الحاج زايد ليجدد كتابة أسماء الرسول ﷺ في المسجد النبوي بالمدينة المنورة، وقد كانت نتيجة عمله لوحة مبتكرة فائقة الجمال، أشاد بها أهل الفن ورواد الحرمين الشريفين؛ وتُعد هذه المهمة من أبرز شهادات التقدير التي نالها في حياته، إذ لا يُكلَّف بمثل هذا العمل إلا من بلغ درجة عالية من الإتقان والدقة والصفاء الروحي.

كذلك فقد امتلك الحاج زايد قدرة فنية استثنائية مكنته من صياغة أنواع متعددة من الخطوط الخاصة به وحده، خصوصًا الخط الفارسي الذي طوّره بأسلوب مبتكر؛ وكانت لوحاته تجمع بين أصالة الخط العربي، ودقة التذهيب، وروعة الزخرفة، وتناسق الألوان؛ مما جعل أعماله تُعد مرجعًا فنيًا لكثير من الخطاطين والباحثين.

الإسهام في التعليم وإعداد الأجيال

كان أثر الحاج زايد ممتدًا في المجال التعليمي، إذ حرص على نقل معارفه إلى تلاميذه، لا بوصفه معلمًا فحسب، بل بوصفه نموذجًا للكاتب الملتزم. فقد شكّل حضوره في الدروس والجلسات الفنية مصدر إلهام للجيل الجديد، الذين وجدوا فيه مثالًا للخطاط الذي يربط الأداء الجمالي بالأمانة المهنيّة، ويضع القيم الروحية في قلب الممارسة الفنية.

لقد ترك أثرًا ظاهرًا في عدد كبير من الخطاطين المعاصرين الذين يرجعون إليه في بداياتهم أو يستشهدون بأعماله في مقارناتهم، وهو ما يعكس حجم تأثيره وعمق منزلته داخل ساحة الخط العربي.

الرحيل

إن الحديث عن الحاج سيد عبد القادر عبد الله ليس مجرد حديث عن خطاط بارع، بل هو تأريخ لرجل عاش للخط، وعاش به، فصار حرفُه ذكرًا، وأعماله شاهدًا على موهبته وورعه وإخلاصه؛ لقد جمع بين الأصالة والإبداع، وبين دقة الحرف ونورانية الروح، وترك تراثًا فنيًا فريدًا لا يزال حيًا في المصاحف واللوحات والزخارف التي خطها بيده المباركة.

توفّي الحاج زايد عبد القادر في أكتوبر من عام 2001م، بعد مسيرة طويلة في خدمة الحرف والقرآن والفن. وبرحيله فقدت الساحة الخطية أحد أعمدتها الراسخة، إلا أن آثاره الفنية بقيت حاضرة، سواء في المصاحف التي كتبها، أو في تلاميذه الذين حملوا فنه إلى أجيال لاحقة. وتبقى أعماله شاهدًا على ارتباط الفن بالنية، وعلى قدرة الحرف العربي على أن يكون ميراثًا يتجاوز حياة صاحبه، امتدادًا للخير والجمال.

وما زال اسمه – الحاج زايد – حاضرًا في ذاكرة فن الخط العربي، رمزًا للنقاء، والإتقان، والعطاء الذي لا ينضب.

 

 

[1] - فوزي سالم عفيفي، دراسات في الخط العربي وأعلامه، الكتاب السادس (طنطا، مكتبة ممدوح، 1995)، 52.

[2] - المرجع السابق، 53.

[3] - وثيقة بخط الحاج محمد عبد القادر، مؤرخة في نوفمبر 1986م، ومنشورة في كتاب الأستاذ فوزي سالم عفيفي، ص 64-65. 

[4] - المرجع السابق، 55.