كلية الفنون الجميلة والعمارة الجامعة اللبنانية
الجمال مفهوم بنيت عليه الأكوان، فأينما نولّي وجوهنا في خلق الله لا نجد إلا الجمال بصوره المتنوعة سواء أكان صورة أو رائحة أو صوتا أو ملمسا، وقد حاول الأقدمون تعريف هذا المفهوم، فمنهم من أرجعه إلى التناسب وآخرون إلى النفع ومنهم من مزج بين الإثنين. والإنسان بطبعه يميل إلى الجمال بل ويبحث عنه، وخصوصا في مفهوم الشكل وذلك لإشباع حاجة تتوقها نفسه، وظهرت النظريات التي حاولت تقديم التفاسير في جمالية الأعمال الفنية، وقام البعض بإرجاع ذلك إلى النسبة الذهبية وحاولوا إسقاطها على الحروف والخطوط وخصوصا العربية منها محاولين إدراك السر وراء جمالية هذه الخطوط.
من هنا لا بد لنا من دراسة بعض النماذج الخطية الشهيرة محاولين تحليلها بالنظريات القديمة والحديثة، ودراسة علاقة تذوقنا للجمال فيها بين النسب المحددة وإثارتها للانفعال والعاطفة التي تحرك الموقع المحدّد لها في العقل بل وفي القلب قبل ذلك.وإذا كان للنسب الخوارزمية الأهمية الأولى لأي عمل خطيّ تقليدي، فكيف نحكم على جمالية الأعمال الحديثة التي تقوم فعليا على عملية هدم وتكسير للقواعد التقليدية وإعادة بناء شخصي للأعمال البصرية المصاحبة للون، بحيث تكون الحروف أو الكلمات ليست مبتغى بحدّ ذاتها بل هي توسّل لمدلول يحاول الفنان إيصاله من خلال رموز الحروف وإشاراتها.
والخط وخصوصا العربيّ منه شكل متحرّك عادة وأيّ جسم متحرّك يقدّم حركة فيزيائية وشحنات كهربائية، فالحركة تشتمل على ثنائية الجذب والطرد وثنائية الفعل وردّ الفعل، والشحنة الكهربائية تشتمل على ثنائية السالب والموجب، ومن هنا نستطيع القول أنّ الذهن البشري يتقن تحويل التجسيم إلى تجريد والمجرّد إلى ملموس والمرئي إلى لا مرئي، ومن هنا نرى التكامل بين المسموع واللامسموع والساكن والمتحرّك وهي بمثابة معادلات رياضية جمالية تنتظر من يقرأ أبجدياتها ويقرؤها من خلال قواعدها. وقد شكّل الحرف العربيّ عند بعض المتصوّفة قيما روحية، ونلمح ذلك مثلا في "فتوحات ابن عربيّ المكية" بقوله فيه: "إنّ الحروف أمة من الأمم، مخاطبون ومكلفون، وفيهم رسل من جنسهم ولهم أسماء من حيث هم، ولا يعرف هذا إلا أهل الكشف من طريقنا، وعالم الحروف أفصح لسانًا وأوضحه بيانًا، وهم على أقسام كأقسام العالم المعروف ... ومنهم عالم الوسط وعالم الجبروت".هذا ويتميز الخط العربيّ بقابليته للتشكيل، كما أنّ لكل حرف رمزا يعبّر عن صوت محدّد فهو بالتالي له نظام صوتيّ خاص.
ومن اللافت للنظر هنا أنّ النظام الصوتي في اللغة العربية يستخدم كامل الجهاز النطقي في عملية اللفظ مما يشكل موسيقى موزونة عكس سائر اللغات التي لا تستخدم إلا جزءا منه، وبالتالي فإنّ المسموع يستغرق كامل الجهاز السمعي للإنسان وبالتالي كذلك كان لا بدّ من أشكال للحروف والتراكيب تواكب هذا التنوع الهائل في موجات الحروف النطقية والسمعية وبالتالي البصرية وفي موسيقاها الهرمونية الموازية. كل هذه الأشكال والأصوات لها حركاتها الاهتزازية التي تتلقاها العين والأذن وإذا تكامل الاثنان كان الجمال أكمل وأوضح وأجلى.
إنّ الخطّ العربي بتكويناته قائم على الحدث التتابعي بالتنوع والتكرار مما يوجد إيقاعا موسيقيا ، خصوصا أنّ أشكال الحروف هي إما حركة صاعدة أو نازلة أو تموجية أو حلزونية أو دورانية أو إشعاعية أو اهتزازية أي أنها تملك حركية تشكّل موسيقى شكلية تثير ليس فقط العين بل القلب الذي يفيض على باقي أماكن تذوق الجمال في النفس الإنسانية ، وهذا يحصل خصوصا في اللغة العربية لأنها اجتماعية مما يشعر بالأمان والاستقرار ، فهذه الموسيقى تتناغم مع المحيط العربيّ بألوانه وحركيته وهيأته ، وهذا الأمر يظهر بوضوح في أشكال الحروف واتصالاتها وتناغمها وانسجامها ، فكما أنّ اللغة العربية اجتماعية في اتصالاتها ومفرداتها _ عكس باقي اللغات_ كذلك هي في صيغها الشكلية وهذا جانب آخر تنعكس فيه الحالة الاجتماعية العربية وتظهر فيه الهوية الجمالية أيضا.كل هذه الأمور ستتم مناقشتها في هذا البحث من خلال استعراض أهمّ النماذج الخطية التقليدية والمعاصرة.